فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

اعلم أنه لا شبهة في أن الخديعة مذمومة، والمذموم يجب أن يميز من غيره لكي لا يفعل، وأصل هذه اللفظة الإخفاء، وسميت الخزانة المخدع، والأخدعان عرقان في العنق لأنهما خفيان.
وقالوا: خدع الضب خدعًا إذا توارى في جحره فلم يظهر إلا قليلًا، وطريق خيدع وخداع، إذا كان مخالفًا للمقصد بحيث لا يفطن له، ومنه المخدع.
وأما حدها فهو إظهار ما يوهم السلامة والسداد، وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير والتخلص منه، فهو بمنزلة النفاق في الكفر والرياء في الأفعال الحسنة، وكل ذلك بخلاف ما يقتضيه الدين؛ لأن الدين يوجب الاستقامة والعدول عن الغرور والإساءة، كما يوجب المخالصة لله تعالى في العبادة، ومن هذا الجنس وصفهم المرائي بأنه مدلس إذا أظهر خلاف مراده، ومنه أخذ التدليس في الحديث، لأن الراوي يوهم السماع ممن لم يسمع؛ وإذا أعلن ذلك لا يقال إنه مدلس. اهـ.
قال الفخر:
لقائل أن يقول: إن مخادعة الله تعالى ممتنعة من وجهين:
الأول: أنه تعالى يعلم الضمائر والسرائر فلا يجوز أن يخادع، لأن الذي فعلوه لو أظهروا أن الباطن بخلاف الظاهر لم يكن ذلك خداعًا، فإذا كان الله تعالى لا يخفي عليه البواطن لم يصح أن يخادع.
الثاني: أن المنافقين لم يعتقدوا أن الله بعث الرسول إليهم فلم يكن قصدهم في نفاقهم مخادعة الله تعالى، فثبت أنه لا يمكن إجراء هذا اللفظ على ظاهره بل لابد من التأويل وهو من وجهين:
الأول: أنه تعالى ذكر نفسه وأراد به رسولة على عادته في تفخيم وتعظيم شأنه.
قال: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] وقال في عكسه {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شيء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] أضاف السهم الذي يأخذه الرسول إلى نفسه فالمنافقون لما خادعوا الرسول قيل إنهم خادعوا الله تعالى.
الثاني: أن يقال صورة حالهم مع الله حيث يظهرون الإيمان وهم كافرون صورة من يخادع، وصورة صنيع الله معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده في عداد الكفرة صورة صنيع الله معهم حيث امتثلوا أمر الله فيهم فأجروا أحكامه عليهم. اهـ.

.قال الشوكاني:

والخداع في أصل اللغة: الفساد، حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي، وأنشد:
أبيض اللون رقيقٌ طعمه ** طيبُ الرِّيقِ إذا الرِّيقُ خدعْ

وقيل: أصله الإخفاء، ومنه مخدع البيت الذي يحرز فيه الشيء، حكاه ابن فارس، وغيره.
والمراد من مخادعتهم لله: أنهم صنعوا معه صنع المخادعين، وإن كان العالم الذي لا يخفى عليه شيء لا يخدع.
وصيغة فاعل تفيد الاشتراك في أصل الفعل، فكونهم يخادعون الله والذين آمنوا يفيد أن الله سبحانه والذين آمنوا يخادعونهم.
والمراد بالمخادعة من الله: أنه لما أجرى عليهم أحكام الإسلام مع أنهم ليسوا منه في شيء، فكأنه خادعهم بذلك كما خادعوه بإظهار الإسلام وإبطان الكفر مشاكلة لما وقع منهم بما وقع منه.
والمراد بمخادعة المؤمنين لهم: هو أنهم أجروا عليهم ما أمرهم الله به من أحكام الإسلام ظاهرًا، وإن كانوا يعلمون فساد بواطنهم، كما أن المنافقين خادعوهم بإظهار الإسلام وإبطان الكفر.
والمراد بقوله تعالى: {وَمَا يخادعون إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} الإشعار بأنهم لما خادعوا من لا يخدع كانوا مخادعين لأنفسهم، لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن.
وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه وما يشعر بذلك، ومن هذا قول من قال: من خادعته فانخدع لك فقد خدعك. اهـ.

.قال الفخر:

فيه وجوه:
الأول: أنهم ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يجرونهم في التعظيم والإكرام مجرى سائر المؤمنين إذا أظهروا لهم الإيمان وإن أسروا خلافه فمقصودهم من الخداع هذا.
الثاني: يجوز أن يكون مرادهم إفشاء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم أسراره، وإفشاء المؤمنين أسرارهم فينقلونها إلى أعدائهم من الكفار.
الثالث: أنهم دفعوا عن أنفسهم أحكام الكفار مثل القتل، لقوله عليه الصلاة والسلام: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» الرابع: أنهم كانوا يطمعون في أموال الغنائم، فإن قيل: فالله تعالى كان قادرًا على أن يوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم كيفية مكرهم وخداعهم، فلم لم يفعل ذلك هتكًا لسترهم؟ قلنا: إنه تعالى قادر على استئصال إبليس وذريته ولكنه تعالى أبقاهم وقواهم، إما لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد أو لحكمة لا يطلع عليها إلا هو.
فإن قيل هل للاقتصار بخادعت على واحد وجه صحيح؟ قلنا قال صاحب الكشاف وجهه أن يقال: عنى به فعلت إلا أنه أخرج في زنة فاعلت، لأن الزنة في أصلها للمبالغة والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب، لزيادة قوة الداعي إليه، ويعضده قراءة أبي حيوة {يخدعون الله} ثم قال: {يخادعون} بيانًا ليقول ويجوز أن يكون مستأنفًا كأنه قيل ولِمَ يدَّعون الإيمان كاذبين.
وما نفعهم فيه؟ فقيل {يخادعون}. اهـ.

.قال الألوسي:

أصل الخدع بفتح الخاء وكسرها الإخفاء والإيهام، وقيل: بالكسر اسم مصدر، ومنه المخدع للخزانة والأخدعان لعرقين خفيين في موضع المحجمة وخدع الضب إذا توارى واختفى ويستعمل في إظهار ما يوهم السلامة وإبطال ما يقتضي الإضرار بالغير أو التلخص منه كما قاله الإمام، وقال السيد: هو أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه وتصيبه به، وفي الكشف التحقيق أن الخدع صفة فعلية قائمة بالنفس عقيب استحضار مقدمات في الذهن متوصل بها توصلًا يستهجن شرعًا أو عقلًا أو عادة إلى استجرار منفعة من نيل معروف لنفسه أو إصابة مكروه لغيره مع خفائهما على الموجه نحوه القصد بحيث لا يتأتى ذلك النيل أو الإصابة بدونه أو لو تأتى لزم فوت غرض آخر حسب تصوره وعليه يكون الحرب خدعة مجازًا ولا تخفى غرابته.
والمخادعة مفاعلة، والمعروف فيها أن يفعل كل أحد بالآخر مثل ما يفعله به فيقتضي أن يصدر من كل واحد من الله ومن المؤمنين ومن المنافقين فعل يتعلق بالآخر، وظاهر هذا مشكل لأن الله سبحانه لا يخدع ولا يخدع، أما على التحقيق لأنه غني عن كل نيل وإصابة واستجرار منفعة لنفسه وهو أيضًا متعال على التعمل واستحضار المقدمات ولأنه جل عن أن يحوم حول سرادقات جلاله نقص الانفعال وخفاء معلوم ما عليه، وأما على ما ذكره السيد فلأنه جل شأنه أجل من أن تخفى عليه خافية أو يصيبه مكروه فكيف يمكن للمنافقين أن يخدعوه ويوقعوا في علمه خلاف ما يريدون من المكروه ويصيبونه به مع أنهم لكونهم من أهل الكتاب عالمون باستحالة ذلك، والعاقل لا يقصد ما تحقق لديه امتناعه، وأما أنه لا يخدع فلأنه وإن جاز عندنا أن يوقع سبحانه في أوهام المنافقين خلاف ما يريده من المكاره ليغتروا ثم يصيبهم به لكن يمتنع أن ينسب إليه لما يوهمه من أنه إنما يكون عن عجز عن المكافحة وإظهار المكتوم لأنه المعهود منه في الإطلاق كما في الانتصاف ولذا زيد في تفسيره مع استشعار خوف أو استحياء من المجاهرة، وأما المؤمنون وإن جاز أن يخدعوا إلا أنه يبعد أن يقصدوا خدع المنافقين لأنه غير مستحسن بل مذموم مستهجن وهي أشبه شيء بالنفاق وهم في غنى عنه على أن الانخداع المتمدح به هو التخادع بمعنى إظهار التأثر دونه كرمًا كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن غر كريم» لا الانخداع الدال على البله، ولذا قالت عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما: كان أعقل من أن يخدع وأفضل من أن يخدع، ويجاب عن ذلك بأن صورة صنيعهم مع الله تعالى حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون، وصورة صنيع الله تعالى معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عند أهل الدرك الأسفل، وصورة صنيع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله تعالى فيهم فأجروا ذلك عليهم تشبه صورة المخادعة ففي الكلام إما استعارة تبعية في {يخادعون} وحده أو تمثيلية في الجملة وحيث إن ابتداء الفعل في باب المفاعلة من جانب الفاعل صريحًا وكون المفعول آتيًا بمثل فعله مدلول عليه من عرض الكلام حسن إيراد ذلك في معرض الذم لما أسند إليه الفعل صريحًا وكون مقتضى المقام إيراد حالهم خاصة كما قاله مولانا مفتي الديار الرومية مما لا يخدش هذا الوجه الحسن أو يجاب كما قيل بأن المراد مخادعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوقع الفعل على غير ما يوقع عليه للملابسة بينهما وهي الخلافة فهناك مجاز عقلي في النسبة الإيقاعية وهذا ظاهر على رأي من يكتفي بالملابسة بين ما هو له وغير ما هو له، وأما على رأي من يعتبر ملابسة الفعل بغير ما هو له بأن يكون من معمولاته فلا، على أنه يبقى من الإشكال أن لا خدع من الرسول والمؤمنين ولا مجال لأن يكون الخدع من أحد الجانبين حقيقة ومن الآخر مجازًا لاتحاد اللفظ وكأن المجيب إما قائل بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز أو غير قائل بامتناع صدور الخدع من الرسول والمؤمنين حتى يتأتى لهم ما يريدون من إعلاء الدين ومصالح المسلمين.
وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وأبو حيوة {يخدعون} والجواب عما يلزم هو الجواب فيما يلزم، وقد تأتي فاعل بمعنى فعل كعافاني الله تعالى وعاقبت اللص فلا بعد في حمل قراءة الجمهور على ذلك ويكون إيثار صيغة المفاعلة لإفادة المبالغة في الكيفية فإن الفعل متى غولب فيه بولغ به أو في الكمية كما في الممارسة والمزاولة فإنهم كانوا مداومين على الخدع و{يخادعون} إما بيان ل {يقول} [البقرة: 8] لا على وجه العطف إذ لا يجري عطف البيان في الجمل عند النحاة وإن أوهمه كلام أهل المعاني وإما استئناف بياني كأنه قيل لم يدعون الإيمان كاذبين وماذا نفعهم؟ فقيل يخادعون الخ، وهذا في المآل كالأول ولعل الأول أولى.
وجوز أبو حيان كون هذه الجملة بدلًا من صلة {من} [البقرة: 8] بدل اشتمال أو حالًا من الضمير المستكن في {يقول} [البقرة: 8] أي مخادعين، وأبو البقاء أن يكون حالًا من الضمير المستتر في {مؤمنين} [البقرة: 8]، ولعل النفي متوجه للمقارنة لا لنفس الحال كما في ما جاءني زيد، وقد طلع الفجر {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] على أنه قد تجعل الحال ونحوها في مثل ذلك قيدًا للنفي لا للمنفي كما قرروه في لم أبالغ في اختصاره تقريبًا، وجعل الجملة صفة للمؤمنين ممنوع لمكان النفي والقيد وليست حال الصفة كصفة الحال فلا عجب في تجويز إحداهما ومنع الأخرى كما توهمه أبو حيان في بحره، نعم التعجب من كون الجملة بيانًا للتعجب من كونهم من الناس كما لا يخفى.
ثم إن الغرض من مخادعة هؤلاء لمن خادعوه كالغرض من نفاقهم طبق النعل بالنعل فقد قصدوا تعظيمهم عند المؤمنين والتطلع على أسرارهم ليفشوها ورفع القتل عنهم أو ضرب الجزية عليهم والفوز بسهم من الغنائم ونحو ذلك وثمرة مخادعة من خادعوه إياهم إن كانت حكم إلهية ومصالح دينية ربما يؤدي تركها إلى مفاسد لا تحصى ومحاذير لا تستقصى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

جملة: {يخادعون} بدل اشتمال من جملة: {يقول آمنا بالله} [البقرة: 8] وما معها لأن قولهم ذلك يشتمل على المخادعة.
والخداع مصدر خادع الدال على معنى مفاعلة الخدع، والخدع هو فعل أو قول معه ما يوهم أن فاعله يريد بمدلوله نفع غيره وهو إنما يريد خلاف ذلك ويتكلف ترويجه على غيره ليغيره عن حالة هو فيها أو يصرفه عن أمر يوشك أن يفعله، تقول العرب: خدع الضب إذا أوهم حارشه أنه يحاول الخروج من الجهة التي أدخل فيها الحارش يده حتى لا يرقبه الحارش لعلمه أنه آخذه لا محالة ثم يخرج الضب من النافقاء.
والخداع فعل مذموم إلا في الحرب والانخداع تمشي حيلة المخادع على المخدوع وهو مذموم أيضًا لأنه من البله وأما إظهار الانخداع مع التفطن للحيلة إذا كانت غير مضرة فذلك من الكرم والحلم قال الفرزدق:
استمطروا من قريش كل منخدع ** إن الكريمَ إذا خادعته انخدعا

وفي حديث: «المؤمن غر كريم» أي من صفاته الصفح والتغاضي حتى يظن أنه غر ولذلك عقبه بكريم لدفع الغرية المؤذنة بالبله فإن الإيمان يزيد الفطنة لأن أصول اعتقاده مبنية على نبذ كل ما من شأنه تضليل الرأي وطمس البصيرة ألا ترى إلى قوله: «والسعيد من وعظ بغيره» مع قوله: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين»، وكلها تنادي على أن المؤمن لا يليق به البله وأما معنى «المؤمن غر كريم» فهو أن المؤمن لما زكت نفسه عن ضمائر الشر وخطورها بباله وحمل أحوال الناس على مثل حاله فعرضت له حالة استئمان تشبه الغرية قال ذو الرمة:
تلك الفتاة التي علقتها عرضًا ** إِنَّ الحليم وذا الإسلام يختلب

فاعتذر عن سرعة تعلقه بها واختلابها عقله بكرم عقله وصحة إسلامه فإن كل ذلك من أسباب جودة الرأي ورقة القلب فلا عجب أن يكون سريع التأثر منها.
ومعنى صدور الخداع من جانبهم للمؤمنين ظاهر، وأما مخادعتهم الله تعالى المقتضية أن المنافقين قصدوا التمويه على الله تعالى مع أن ذلك لا يقصده عاقل يعلم أن الله مطلع على الضمائر والمقتضية أن الله يعاملهم بخداع، وكذلك صدور الخداع من جانب المؤمنين للمنافقين كما هو مقتضى صيغة المفاعلة مع أن ذلك من مذموم الفعل لا يليق بالمؤمنين فعله فلا يستقيم إسناده إلى الله ولا قصد المنافقين تعلقه بمعاملتهم لله كل ذلك يوجب تأويلًا في معنى المفاعلة الدال عليه صيغة {يخادعون} أو في فاعله المقدر من الجانب الآخر وهو المفعول المصرح به.
فأما التأويل في {يخادعون} فعلى وجوه:
أحدها: أن مفعول خَادع لا يلزم أن يكون مقصودًا للمخادِع بالكسر إذ قد يقصد خداع أحد فيصادف غيره كما يخادع أحد وكيلَ أحد في مال فيقال له أنت تخادع فلانًا وفلانًا تعني الوكيل وموكِّلَه، فهم قصدوا خداع المؤمنين لأنهم يكذّبون أن يكون الإسلام من عند الله فلما كانت مخادعتهم المؤمنين لأجل الدِّين كان خداعهم راجعًا لشارع ذلك الدين، وأمَّا تأويل معنى خداع الله تعالى والمؤمنين إياهم فهو إغضاء المؤمنين عن بوادرهم وفلتات أَلسُنهم وكبواتتِ أفعالهم وهفواتِهم الدال جميعها على نفاقهم حتى لم يزالوا يعاملونهم معاملة المؤمنين فإن ذلك لما كان من المؤمنين بإذن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لقد نهى من استأذنه في أن يقتل عبدَ الله بن أبي ابن سلول، كان ذلك الصنيع بإذن الله فكان مرجعه إلى الله، ونظيره قوله تعالى: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم} في سورة النساء (142)، كما رجع إليه خداعُهم للمؤمنين، وهذا تأويل في المخادعة من جانبيها، كل بما يلائمه.
الثاني: ما ذكره صاحب الكشاف أن {يخادعون} استعارة تمثيلية تشبيهًا للهيئة الحَاصلة من معاملتهم للمؤمنين ولدين الله، ومن معاملة الله إياهم في الإملاء لهم والإِبْقاء عليهم، ومعاملة المؤمنين إياهم في إجراء أحكام المسلمين عليهم، بهيئة فعل المتخادعَين.
الثالث: أن يكون خادع بمعنى خدع أي غير مقصود به حصول الفعل من الجانبين بل قَصْدُ المبالغة.
قال ابن عطية عن الخليل: يقال خَادع مِنْ واحد لأن في المخادعة مُهْلةً كما يقال عَالجت المريضَ لمكان المهلة، قال ابن عطية كأنه يرد فَاعَل إلى اثنين ولابد من حيثُ إن فيه مهلة ومدافعة ومماطلة فكأنه يقاوم في المعنى الذي يجيء فيه فاعَلَ. اهـ.
وهذا يرجع إلى جعل صيغة المفاعلة مستعارة لِمعنى المبالغة بتشبيه الفعل القوي بالفعل الحاصل من فاعَلْين على وجه التبَعية، ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن عامر ومن معه: {يخْدَعون الله}.
وهذا إنما يدفع الإشكال عن إسناد صدور الخداع من الله والمؤمنين مع تنزيه الله والمؤمنين عنه، ولا يدفع إشكال صدور الخداع من المنافقين لله.
وأما التأويل في فَاعِل {يخادعون} المقدَّر وهو المفعول أيضًا فبأن يُجعل المراد أنهم يخادعون رسول الله فالإسناد إلى الله تعالى إما على طريقة المجاز العقلي لأجل الملابسة بين الرسول ومُرسله وإما مجازٌ بالحذف للمضاففِ، فلا يكون مرادهم خداعَ الله حقيقة، ويبقى أن يكون رسول الله مخدوعًا منهم ومخادعًا لهم، وأما تجويز مخادعة الرسول والمؤمنين للمنافقين لأنها جزاءٌ لهم على خداعهم فذلك غير لائق.
وقوله: {يخادعون الله} قرأه نافع وابن كثير وأبو عَمرو وخلَف {يخادعون} بألف بعد الخاء وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر ويعقوب {يخْدَعون} بفتح التحتية وسكون الخاء.
وجملة {وما يخادعون إلا أنفسهم} حال من الضمير في {يُخادعون} الأول أي يخادعون في حال كونهم لا يخادعون إلا أنفسهم أي خداعهم مقصور عن ذواتهم لا يرجع شيء منه إلى الله والذين آمنوا، فيتعين أن الخداع في قوله: {وما يخادعون} عينُ الخِداع المتقدم في قوله: {يخادعون الله} فَيَرِد إشكال صحة قصر الخِداع على أنفسهم مع إثبات مخادعتهم الله تعالى والمؤمنين.
وقد أجاب صاحب الكشاف بما حاصله أن المخادعة الثانية مستعملة في لازم معنى المخادعة الأولى وهو الضُّر فإنها قد استعملت أولًا في مطلق المعاملة الشبيهة بالخداع وهي معاملة الماكر المستخف فأطلق عليها لفظُ المخادعة استعارة ثم أطلقت ثانيًا وأريد منها لازِم معنى الاستعارة وهو الضُر لأن الذي يعامَل بالمكر والاستخفاف يتصدى للإنتقام من معامِلِه فقد يجد قدرة من نفسه أو غِرَّةً من صاحبه فيضره ضرًا فصار حصول الضر للمعامِل أمرًا عرفيًا لازمًا لمعامَله، وبذلك صح استعمال يخادع في هذا المعنى مجازًا أو كناية وهو من بناء المجاز على المجاز لأن المخادعة أطلقت أولًا استعارة ثم نُزلت منزلة الحقيقة فاستعملت مجازًا في لازم المعنى المستعار له، فالمعنى وما يَضُرون إلا أنفسهم فيجري فيه الوجوه المتعلقة بإطلاق مادة الخداع على فعلهم، ويجئ تأويل معنى جَعل أنفسهم شقًا ثانيًا للمخادعة مع أن الأنفس هي عينهم فيكون الخداع استعارة للمعاملة الشبيهة بفعل الجانبين المتخادعين بناء على ما شاع في وِجدان الناس من الإحساس بأن الخواطر التي تدعو إلى ارتكاب ما تَسوء عواقبه أنها فعلُ نفس هي مغايرة للعقل وهي التي تسول للإنسان الخير مرة والشر أخرى وهو تخيُّل بُني على خَطابة أخلاقية لإحداث العداوة بين المرء وبين خواطره الشريرة بجعلها واردة عليه من جهة غير ذاته بل من النَّفْس حتى يتأهب لمقارعتها وعصيان أمرها ولو انتسبت إليه لما رأى من سبيل إلى مدافعتها، قال عمرو بن معدي كرب:
فجاشَت عليَّ أوَّلَ مرة ** فرُدَّتْ على مكروهها فاستقرتِ

وذكر ابن عطية أن أبا عليّ الفارسي أنشد لبعض الأعراب:
لم تَدر ما لا ولستَ قائلَها ** عُمْرَك ما عِشْتَ آخر الأبد

ولم تُؤامر نفسيْك مُمتريا ** فيها وفي أختها ولم تكد

يريد بأختها كلمة نعم وهي أخت لا والمراد أنها أخت في اللسان.
وقلت ومنه قول عروة بن أذينة:
وإذا وجدتُ لها وَسَاوِسَ سَلْوَة ** شَفَع الفؤاد إلى الضمير فَسَلَّها

فكأنهم لما عصوا نفوسهم التي تدعوهم للإيمان عند سماع الآيات والنذر إذ لا تخلو النفس من أوبة إلى الحق جعل معاملتهم لها في الإعراض عن نصحها وإعراضها عنهم في قلة تجديد النصح لهم وتركهم في غيهم كالمخادعة من هذين الجانبين. اهـ.